مُذكراتُ ليلٍ لا ينقضي

لا يجدر بمزكوم أن يكتب، لأنه لا يشعر بشيء إلا من خلال أنفه.. لكنه لو كتب حينها فإنه لا محالة يترجم شعورًا يُلحُّ عليه أكثر من أنفه المتورم .. أفكار ومشاعر تستبيح حياتنا وتطرقنا كعامل منجم ظل يضرب الصخرة يظن أنه نبي الله موسى، وأن الصخرة ستنفجر اثنتَي عشرة عينًا، ولكنها لم تفعل ولم يتوقف هو أيضًا عن ظنونه...!

لا أصدق المذكرات كثيرًا لأننا ننتقي فيها ما نريد كتابته عن أنفسنا لا الواقع بالضرورة، ولأنها قد تغدو حِيلة العاجز...
لكننا لا نكتب إلا حين نُثـْقلُ وتنوءُ قلوبُنا بما نحمل، حين تتوقف عجلة حياتنا عن الدوران، لأن آلاف الكلمات والمواقف والأفكار لم يعد لها متسع في رحلة جديدة، إذاً علينا أن نتخفف من عبئنا هذا بالكتابة..!    

طموحات المستقبل.. هذا سؤال المرحلة بالنسبة لي.. سؤال ماذا بعد...! الأكثر إلحاحًا، وسخرية في آنٍ معًا..!
ماذا ننتظر من المستقبل ؟؟
بالنسبة لي فإني مع الحروب الدائرة حولنا، ووصف الدائرة ليس عبثًا، إذ نحن نعيش حقيقة في منتصفها، ونراها تضيق شيئًا فشيئًا حتى تكاد تلتهمنا.. نعم سيأتي اليوم الذي تلتهمنا فيه هذه الحرب، ولكن الحمد لله سيكون عندنا خبرة جيدة في الحروب...!
في تلك الحرب: أرجو مِيتةً جماعيّةً لا تحرق قلب أحد على أحد، ورقمًا متناسقًا لأعدادنا في نشرات الأخبار، أن يكون فرديًا كله مثلًا 137 أو زوجياً 246 لا أعرف عدد الأصفار الإضافيّة في عالم الأرقام هذا، فلست جيدة في الرياضيات ولا في السياسة أيضاً..!!
أفضّل أن ينقلَ الخبر فيروز زياني وجمال ريان على قناة الجزيرة، ببذلات سوداء أنيقة، وبملامحهم الجادة الحزينة، كم سيبدو الأمر فاتنا وتراجيديا في آن معاً، وأن لا تصل لنا كميرات المصورين ولا هاشتاجات الشاشة الزرقاء، لا نريد تضامنًا، ماذا يفيد الموتى من التضامن! ولا أعرف حقيقة إن كانوا سيسموننا شهداء أم قتلى، أم ضحايا... لا يهم.. فماذا يفيد الموتى أسماؤهم عند الأحياء أيضًا..! 
وإن كنت مستعدة للتنازل عن كل الطلبات السابقة، كما تتنازل فتاة عن مواصفات فارس أحلامها إلا أنها تبقى مصرّة على أن يكون وسيمًا..!
فإني أتنازل عن كل ما سبق ويكفيني قبر في قلب عمان... عميق عمقَ جرحنا وحبنا وآلامنا، كثر الأيام التي سرناها في وسط البلد وأكلنا من "حبيبة على الواقف"، وانتظرنا باص الجامعة على الواقف أيضًا، واعتصمنا أمام رئاسة الجامعة والحسيني على الواقف، وندوة فكرية مزدحمة حضرناها على الواقف...
أريد قبرًا يليق بهذه الذكريات... قبرًا في قلب عمان.. عميقٌ ونديٌّ بالمطر.. حينها سيتاح لي أن أرتاح يا وطني على ترابك بعد طول الوقوف والانتظار...!
لم أكن يوما أحب عمان كما أفعل اليوم... ربما تأففت كثيرًا وضجرتُ من الاعوجاج الذي لا تخلو منه أي زاوية من زواياها..
لكنني أحبها... وأغار عليها وأغضب لها... مثل أم تدعو على ابنها ثم تزجر تلك التي تُؤَمِّنُ على الدعاء..
عمان لنا... هواؤها صباحًا... عصبية أهلها ومزاجيتهم، وأمثالهم... سؤال "انت من وين"..! المطبات.. كل الواجهات التي تفوح منها رائحة القهوة.. العميد المغشوش ..! كل هذا أحبه..!
"لكِ يا منازلُ في القلوبِ منازل"

أحيانًا يبلغ بي الأمر أن أنسى أن أنظر لنفسي في المرآة.. أخرج مسرعة دون تنظيف وتلميع حذائي، أنسى تفقد إغلاق الأزرار، أضع اللفحة كيفما اتفق، أقول "هوز كير؟" أوأقنع نفسي بأن من يحبك يراك جميلًا وليس العكس..

أعترف بأن بعض الناس تدفعك وجوههم إلى حبهم... ملامحهم تعطيك أريحيّة ورضا وابتسامة.. اتساع عيونهم يشعرك باتساع قلوبهم وأرواحهم، لكن هذا لا يعني ما يريده "الهليوديون" الذين يقيسون الجمال بالقوالب والمساطر..!

إلى أيّ حد يجدر بنا أن نصدق حدسنا..؟..
إلى الحدّ الذي نشعر فيه أن قلوبنا نقيّة لله. 

أُهيل على وجهي لحافي الورديّ المُتكنز... آمل أن لا أفكر قبيل النوم بشيء.. أغبط كل أولئك الذين لا يمتلكون أية أحلام .. يعيشون الحياة ببساطتها...

أولئك الذين يبدون أقوياء أمام الآخرين ... كم ينكسرون من الداخل في خلواتهم ويبكون ..!

كم أغبط أولئك المتصالحين مع أوجاعهم وآلامهم، يُطببونها بالإيمان والتقوى والتسليم الأعمى لا لله فقط، وإنما لعباده أيضاً، يحقنون أنفسهم بإبر مُخدّرة من آياتٍ وأحاديثَ، يحملونها على غير محملها، ولكنها تريحهم من عناء الهَمِّ والكفاح في هذه الحياة، وتعطيهم أملاً بأن المستقبل سيكون "الجنّة"، فلا داعٍ لأي مستقبل هنا على هذه الأرض الملئية بالأشرار، الذين يحتاجون للصبر والاحتساب فقط...
مع أنني أمقت نمط التدين هذا إلا أنني مؤخرًا صرت أحسدهم، لأنّهم مُعفون من آلام كثيرة، يعانيها ذلك الإنسان الذي يؤمن بأنه "خليفة الله في أرضه" وبأنه مأمور بالعمل حتى قيام الساعة، وعليه أن يحمل الفسائل ويغرسها في كل وقت، لكن في وقتنا هذا لا مجال لهذا الخليفة إلا أن يتلقى الصفعات والصدمات الواحدة تلو الأخرى.. لا يعرف كيف يردها ولا كيف يتقيها..! وفي الوقت ذاته هو مأمور بأن لا ييأس... ربما يكون هذا الأمر الإلهيّ الأثقل على النفس أن لا نيأس.. قبل أيام تناقشنا في شأن العالم أنا وعربي ومريم على باب المكتبة، بعد نظرة عامة لهذه الضآلة التي نعيشها وبأننا وصلنا دركًا من الهوان والضعف لم يصله المسلمون من قبل، ولا أدري إن كان ينتظرنا الأسوء، الذي لم نكن قبل أشهر قليلة نظن أن هنالك ما هو أسوء منه، وفي كل يوم تظهر لنا منازل أخرى في هذا القاع المظلم الذي لا يُعرف قَراره... لا أعرف كيف وجدتنا نتحدث فجأة عن أساليب رحيمة للموت، ضحكنا حينها، لكنني لم أشعر بضحك موجع كما كان وقتها، اقترحت مريم أسلوب إغلاق نوافذ السيارة والانتظار حتى الموت، وقالت بأن سيارتي جيدة لهذا..! ضحكت لهذه الفكرة.. اقترح عربي وسيلة فعّالة أكثر أن تغلق باب كراج على نفسك وتشغّل السيارة وأنت بداخلها، بعد عدة ساعات ستموت بهدوء... !
"كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا.... وحسب المنايا أن يَكُنَّ أمانيا"

لا أذكر في مساء ما كيف شتمت أنا وصديقتي الرجال وقتها..! أي ألقاب اخترنا.. لا أعرف حقًا ما الذي انعكس على الآخر... مشاعرنا انعكست على أفكارنا أم أن أفكارنا انعكست على مشاعرنا... المهم أننا شعرنا بشيء من الاشتفاء وقتها... الاشتفاء المؤقت..!

عندما ينزع عنك البعض ما تتدثر به من الوقار والكبرياء والصمت والصبر...
فيظهر ضعفك وحزنك ووحدتك وثرثرتك غير المتزنة ولا المفهومة..!
ثم هذا الجنون الذي يتلبسك عندما تعود لرشدك ... وتصرخ بنفسك "ماذا فعلت؟"

تستمع لفيروز... "ياريت منن مديتن إدي وسرقتك ولأنك إلن رجعتن إيدي وتركتك حبيبي ..!
إذا رجعت بجن وإن تركتك بشقى لا إقدرانه فل ولا قدرانه إبقى ... وشو قالوا يا عمر حلو وما دقتك..!"
أو تسمع: "يا رايحين وتلج ما عاد بدكن ترجعو..."  
من قال لفيروز أن تغني ..!

أنصرف للدراسة... أنظر للساعة، أحدد ما عليَّ إنجازه في الوقت المتبقي لي في المكتبة، أبدأ بتركيز، أقرأ في كتب البلاغة "موضوع دراستي"، لكن مؤلفي البلاغة لا يحلو لهم الاستشهاد إلا بالمتنبي، هذا الجنيّ النبيّ، الذي تتلبسك كلماته، فلا تعرف كيف تصرفها عنك، ولا كيف تنصرف عنها، أقرأ البيت فأنصرف كُلّية عما أنا فيه، وأرجع للديوان كي أقرأ القصيدة كاملة... أتمتم " قاتله الله ما أشعره" أردد الأبيات قليلا أقرأ قصائد أخرى ... ينقضي الوقت ولا ينقضي سحر المتنبي..!

في أحيان كثيرة أفكر في أن أترك عملي لأنه يفرض عليَّ كل يوم أن أتحدث عن جراحنا وأعبث بها، بكل برود وبساطة، وأستمع لبعض الغربيين يُنظّرون فيها، وأتسم بالحياد في الرد وتوجيه الأسئلة...  

صعب أن تكتب والمعنى الذي تكتب لأجله مما لا يباح به... يستعصي عليك أن تغدو كتابًا مفتوحًا للرائح والغادي.. وصعب أن تغلق على قلبك فسحات النور فلا تراك إلا توشك على الانفجار..

مزعجة حساسيتنا إزاء كل كلمة وكل التفاتة وكل يوم وكل دقيقة ... إزاء أحزاننا الصغيرة، حساسيتنا إزاء ما كناه وما نحن عليه الآن...


....الكبرياء يقتل صاحبه.

تعليقات

  1. لفتات ذكية هنا و هناك..
    ممكن المزيد من التوضيح/الاستشهاد لهذه الجملة: "ولأنها قد تغدو حِيلة العاجز"؟

    ردحذف
  2. أهلا صديقتي حنين .. شكراً لك :)
    الكتابة وسيلة العاجز ليعبر عن نفسه...
    في الوقت الذي لا يستطيع فيه فعل شيء فإنه يكتب..

    ردحذف
    الردود
    1. لم أستلطف التعميم، فقط.

      أهلا بك، من مزكوم أيضا، يفكر في انشاء مدونة ؛)

      حذف
    2. ربما ليس تعميما تماما لأنه في سياق شخصيّ ..
      وسلامات لكِ :)

      حذف
  3. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف

إرسال تعليق