كن فكرة



قال لي : "وما الذي يدفعني لكل هذا العناء الذي لا مقابل له ..! وما همّني إن آمن الناس بما أومن به، أولم يؤمنوا ! حسبي نفسي ..!!"
فظلت تدور في نفسي هذه الكلمات:
     ما معنى أن تعتنق فكرة ما؟ فتكون عقيدتك التي تذود عنها، وتضحي من أجلها، وتنفق مالك في سبيلها، وتُعرف بها بين الناس، وتذرف الدمع سخياً حرقة وحباً وأملاً لها ..! ويتقلب فكرك على جمرها، وتتقمصك فلا تعودان إلا جسداً وروحاً...
لماذا نتردد في تبني فكرة ما والعطاء من أجلها !! ولكننا لا نتردد في الأكل حين نجوع ،ولافي الشرب حين العطش ولا في الراحة حين التعب ، أوَلا تعطش أفئدتنا لفكرة تحيا بها ؟! أولا يتعب الجسد دون أن يمتلئ بفكرة أو هاجس يشغله ! أولا نفتقد كثيراً من إنسانيتنا حين نتجرد من العقائد الحارة والأفكار الدافعة والأحلام المؤرقة ، ونساوي بذلك بيننا وبين سائر المخلوقات بل الجمادات .. !
ماذا يعني أنك صاحب إنجازات : لقد درست وتخرجت وعملت وتزوجت وأنجبت وترفعت من منصب لآخر ، وزاد دخلك ، ورأيت أحفادك ، لقد كنت لاشك صاحب شخصية قوية ولقد كنت إنساناً صالحاً في محيطك ، حسناً سأسألك : ماذا لو لم تكن ؟ هل ستشعر البشرية أن هناك نقصاً بها ؟ ماذا لو لم تكن؟ ماذا لو انتهت حياتك في منتصف هذه المسيرة ؟ ماذا لو كنت غيرك ؟ أو كان غيرك أنت؟ ماذا لو بدلنا الأسماء والمناصب والأماكن بينك وبين غيرك؟ لن تختلف القصة كثيراً، ماذا ترى في المرآة؟ هل ترى وجهك ؟ أم وجه كل البشر ؟ ، ذات العينين والأنف والشعر ..وذات الحياة ، نعم ربما كنت مثقفاً ، ربما كنت عالماً ، ربما كنت جاهلاً ... أخبرني ما قيمتك ؟ إن لم تكن تملك رسالة تقدمها للعالم، إن لم تملك فكرة توضحها للناس ، وتدعوهم لها ، إن لم تتشبع بعقيدة جازمة في قلبك ، تُغيّر بها مسار الإنسانية ، أو تساهم في تغيّره ، أو فلنقل تمهد الطريق بها لغيرك كي يغيّره، فأنا ألحّ عليك أن تخبرني ما قيمتك؟
نحن نعيش في زمن أصبحت فيه الأعداد هوجاء لا قيمة لها، وأصبح الإنسان بضاعة مقلدة، وأصبحت الأرواح مكرورة، لا تعبق بفرادة أوعمق أوأهداف سامية ...
 وإن لم تبُرز فيه ملامحك ، فعساني لا أميزك بين الجموع !
وبعدُ فإن الأفكار ليست "مُعلبات" تستخدم، ولا وصفات جاهزة تستهلك، إنها لابد تقتات قلبك، وتقضّ مضجعك، وتملك عليك حسك، وتصهر بها شعورك وتستبد بجسدك، ويتوقد فكرك وتشتعل قريحتك ... هذه هي الأفكار التي تُغير وتؤثر وتبدل، وتصنع وتبدع، وتبقى حية مزهرة يانعة، براقة للعيون، لا يعلوها غبار القدم، ولا وهن الحداثة، ولا يمسها الدهر بصنائعه ..
لا تخلق الأفكار في أذهان باردة وقلوب فاترة، وأطراف مستريحة، أوفي حالة محاولة لتجربة هذه الأفكار إن كانت صحيحة أوخاطئة .. حين نؤمن بفكرة يجب أن نثق بها حداً لا يمسه الشك ، أو يخالجه الريب والتردد ، عليك أن تقدم وتضحي وتعطي وتخطط وتكدّ وفي داخلك استحضار تام وإيمان عميق لا تزلزله النوازل أن هذه الفكرة خلقت لتبقى ،ووجدت لتكبر، وكبرت لتثمر ، وأثمرت لتبقى أبد الآبدين ... "تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها"
وبعد هذا عليك أن تثق بأن الأفكار الصالحة لا تموت ، قد تُغفل، قد ترحل إذ يرحل أصحابها مؤقتاً، لكنها ما تلبث أن تبعث من جديد .. "فالعناية التي تلحظ هذا الكون لن تسلم فكرة صالحة للفناء"
وهناك فارق كبير بين الإيمان بفكرة ، وبين الإعجاب بها ومسايرتها ، تماماً كالفرق بين أن أيمم شطر فكرتي أينما اتجهت، وبين أن أغازلها من بعيد، بين أن أتخصص بها وأنال بها درجة علمية فحسب ..! وأحصرها في ميدان العمل وبين أن تكون صومعتي ومحرابي الذي أعتكف فيه أبداً ..!


بقلم : عبير خليفات

تعليقات

  1. " أولا نفتقد كثيراً من إنسانيتنا حين نتجرد من العقائد الحارة والأفكار الدافعة والأحلام المؤرقة " ,, هذا ما اتمنى بحق ان يستشعره كل البشر لنحظى بعالم من نوع آخر تماما ! ,, بورك قلمك :)

    ردحذف
    الردود
    1. شكراً لكِ صديقتي هدى ، أسعد بمتابعتك دوماً :)

      حذف
  2. رائعة جداً صديقتي ...
    قد تحدثتِ دُرراً من الافكار وبهذا انتِ كنتِ فكرة ..

    اشكر أناملك لما خطّت :)

    ردحذف
    الردود
    1. أشكرك أخيتي غدير ..
      وأسأل الله أن ينفع بنا جميعاً
      تسرني متابعتك :)

      حذف
  3. سلمت يا دينا ... لعلنا نسهم في رسم وجه أجمل لهذا العالم نرضي به وجه الله ، حين نلقاه .. :)
    سعيدة بك ..

    ردحذف

إرسال تعليق