لماذا اخترت البلاغة؟

نوقشت رسالتي المُعنونة بـ(الجملة الخبرية والإنشائية بين النظرية والاستعمال في النثر العربي القديم والحديث: دراسة تطبيقية مقارنة في كتابي "جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب" لسيد أحمد هاشمي، و"مرفأ الذاكرة" لنخبة من الكتاب العرب) وأجيزت بتاريخ 20/12/2016. (أعتذر على طول العنوان!)

ولما أعتقده من أهمية البحث البلاغي وضرورة تحرير الدراسات العلمية من أسر الرفوف وغبار الأدراج، لذلك فإني ارتأيت أن أعرّف - ولو بشكل بسيط- بدراستي، وبهدف البلاغة كما أراه، وبدور البلاغة الذي أطمح أن يغدو واقعاً.  
فقررت نشر هذه الأجزاء من مقدمة رسالتي:

"تناقش هذه الرسالة مبحثَي الخبر والإنشاء، وتهدف إلى قراءة صورة هذين المبحثين في التنظير البلاغي، وفي واقع الاستعمال؛ للإجابة عن سؤال رئيس هو: "هل وافقت الصورة النظرية للخبر والإنشاء واقع استعمالهما"؟
وهذا السؤال وإن كان خاصاً بهذين المبحثين إلا أنه اقتراح وسؤال مفتوح للبحث في البلاغة العربية بعامة، في مدى شمول النظرية البلاغية لواقع الاستعمال أولاً، وتساؤل عن مواطن الجمال ثانياً؛ كي تبقى البلاغة مسيسة الصلة بما وضعت له بادئ الأمر، قادرةً على توجيه الذوق العربي ليس في الأدب وحدَه فحسب، بل في مناحي الحياة كلها، وتهذيب أخلاقه وإرهاف حسه.
والبلاغة - مع هذا- لا تقوى على هذا التأثير وهذه المهمة إن كانت منغلقة على نفسها، محصورة في كتب صمّاء، بل عليها أن تقرأ لغة اليوم في سبيل تطويرها من جهة، وفي سبيل التعلم منها من جهة أخرى، ناظرة إلى غاية البلاغة الأهم "تحقيق التأثير الجماليّ والانفعاليّ في المتلقي"، فالنص البليغ هو النص الجميل المؤثر، على ما يحمله وصف "جميل ومؤثر" من نقاط خلافية لا تستقر في زمان أو مكان، وإذا كان توصيف الجميل والمؤثر ليس ثابتاً، إلا أننا يمكننا الاتفاق على أهمية اتخاذه غاية في البلاغة العربية، فالغاية ثابتة، ولكن الوسيلة إلى تحقيق الجمال والتأثير ليست ثابتة، بل قابلة للتبدل والتكيّف، وغير مُلزَمة بقواعد أو أُطر.
وهذه الرسالة وإن كانت تختص في جزئية من قضايا البلاغة إلا أنها تناقش التأليف البلاغي، وتتخذ نموذجا لذلك كتاب السكاكي (مفتاح العلوم). وهذا الكتاب على كثرة ما وجّه له من انتقادات لا تجدُ من قدّم له بديلاً مستوفي الأركان، وقد كانت أبرز الانتقادات لكتاب السكاكي متمثلة في جموده، وحِدّة القواعد فيه وصرامتها، وغلبة الطابع المنطقي الفلسفيّ على حساب الذوق الفني والحسّ الجماليّ، وتداخل بعض الأقسام حسب رأي بعض الدارسين. وقد قسا كثير من المؤلفين على السكاكي، ولعلهم أغفلوا أنه ابن عصره، وأنّ علينا أن نراعي في تناولنا لمفتاح العلوم وما تلاه من المؤلفات ظروف عصرهم، إذ بدأ الحديث عن الخبر والإنشاء على وجه الخصوص في بيئة المعتزلة، و"الحكم على الماضي بمعايير الحاضر يكون انحيازاً للحاضر على حساب الماضي" فالسكاكي ابن البيئة الفلسفية التي كانت سائدة حينها حتى إنّ بعضهم سمّى مدرسته في البلاغة المدرسة الفلسفية، في مقابل المدرسة الأدبية، وكانت الغلبة بالطبع والشهرة الأوسع للمدرسة الفلسفية، ومن أعلامها السكاكي.
ولكن التأليف البلاغي لم تنحصر مشكلته في كتاب السكاكي، بل كانت كذلك في قلة المؤلفات البلاغية التعليمية على وجه الخصوص التي تعين المتعلم على النظر في النص البليغ ودراسته، وعلى تمثله ومحاكاته في التطبيق، ولا تلزمه فقط بحفظ الشواهد وما تنطوي عليه من قيم بلاغية، دون القدرة على محاكاة هذه الشواهد، وهذا ما جعل دروس البلاغة في المدارس والجامعات دروساً تلقينيّة، تتطلب من الطالب الحفظ والاستذكار للقواعد والمعلومات، ولا تعمل على تحسين كتابته، أو تطوير فهمه للنصوص البليغة، وهذا هو مقصد رئيس من مقاصد البلاغة.
أما من جهة الدراسات البلاغية التأصيلية -أي التي لا تهدف للتعليم، بل لوضع أسس ومرتكزات علم ما- فسنجد أن الدراسات البلاغية تكاد تنحصر في قسمين:
الأول الدراسات البلاغية التقليدية، أي التي تدرس البلاغة كما عالجتها مدرسة السكاكي، مرة في محاولة التيسير، ومرة في محاولة الشرح أو الاختصار أو التطويل، ويعيدون ويكررون ما جاء به المعلم الأول السكاكي أحياناً إلى حد تكرار الأمثلة نفسها، حتى "تحوّلت هذه الأمثلة المتوارثة من قبيل المتغيرات إلى قبيل الثوابت بحيث لا يقوم غيرها مقامها"، والذي يشير إلى حد بعيد إلى تعذر القياس عليها.
وآخرون ثاروا على هذه النمطية التقليدية التي لم تقدم للبلاغة سوى زيادة في عدد الكتب دون الإضافة إلى مضمونها، ولكن هذه الثورة أو هذا الرفض جاء متزامناً مع انفتاح العرب على العلوم الغربية والأخذ منها، فمنهم من ألف مؤلفات في تمجيد البلاغة الإنجليزية أو الفرنسية والقدح والانتقاص من البلاغة العربية، يسلطون الضوء على الجوانب السلبية في البلاغة العربية ويضخمونها، ويغفلون جوانبها المشرقة.
وآخرون لم يستطيعوا الانحياز لأي من الفريقين؛ فاختاروا المزاوجة بينهما، واعتمدوا على البلاغة العربية في التنظير، فبحثوا في البلاغة الغربية عن نقاط مشتركة يستطيعون من خلالها التفريق بين الجيد والرديء، فجعلوا من البلاغة الغربية دليلاً على تقدم البلاغة العربية أو تأخرها على قدر التوافق أو الانسجام بينهما. وهذا لا ينفك بحال من الأحوال عن الحالة الحضارية والسياسية والثقافية التي تعيشها الأمة التي جعلت من تقليد الغالب ولعاً ومنهج حياة.
وأظنُّ أن البلاغة العربية وأهلها والمشتغلين بها قادرون على تصحيح المسار واستدراك ما أخذ عليها مستقلين بنظرهم، وفكرهم من سطوة الماضي، وسحر التأليف المعاصر، مخلصين لغاية البلاغة الجمالية الفنية، ولدورها في توجيه الذوق العام ذوق الأمة الذي انبثق عنه الوحي "الرسالة الخالدة" التي تحتاج إلى خلود في ذائقة الأمة ووجدانها.
        هذا، وإنَّ جوهر الدراسة يتمثل في العمل على تقديم توصيف للجملتين الخبرية والإنشائية كما وردتا في كتب البلاغة، ومعارضة ذلك بما ورد في الاستعمال في النثر العربيّ قديمه وحديثه، وذلك من خلال دراسة نموذجين للغة النثر القديم والحديث، وهي من النصوص النثرية التي جمعها أحمد هاشمي في كتاب "جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب"، وكتابي "مرفأ الذاكرة" و"القصة ديوان العرب" لنخبة من الكتاب العرب المعاصرين، باستخدام الدراسة الإحصائية لصور الخبر والإنشاء.
         وأما التنظير البلاغي فسترصده الدراسة في كتب البلاغة، وأهمها كتاب "مفتاح العلوم" للسكاكي، وشروحه، ثم ستقيم الدراسة مقارنة بين النظرية والاستعمال تقوم على أساس دراسة وجوه الاتفاق والاختلاف، وبعد ذلك ستقوم بدراسة الفرق بين الاستعمال الحديث والقديم، ورصد الفروق بين النثر العربي القديم والنثر العربي الحديث، ورصد نقاط الالتقاء والافتراق بينهما في سبيل توصيف الظاهرة اللغوية وتطورها، والوقوف على المدى الذي ذهب إليه البلاغيون في استيعاب هذه الظاهرة بشموليّة، والإلمام بجميع جوانبها، وإن كانت هناك مواطنَ قد أغفلها البلاغيون، فهذا سؤال في مدى استيعاب النظرية البلاغية للصور الممكنة للخبر والإنشاء، وإن كان الاستعمال الحديث قد اتسع وامتد؛ فاحتاج لذلك إلى نظرة جديدة لمعالجة هذه الظاهرة مرّة أخرى.
وتتمثل أهمية الدراسة في محاور أخرى، أبرزها: تقديم توصيف للجملة الخبرية والجملة الإنشائية في كتب البلاغة والاستعمال قديماً وحديثاً، هذا الذي سيساهم في رصد وتوصيف الفروق بين العربية القديمة والعربية المعاصرة، بوصفها ظاهرة تطورية قد خضعت لعوامل التطور خلال بضعة عشر قرناً من عمرها الممتد. فالدراسة ستفيد فيما ستقدمه من إحصاءات حول صورة النظرية في الاستعمال، الذي سيكون مادة ضرورية للقائمين على تعليم البلاغة، فإن توضيح الشائع في الجملة العربية يُيسر ويختصر على الطلبة قواعد كثيرة قد تكون ضئيلة الحجم في الاستعمال، ولكنها معقدة وشائكة في التنظير، فلا حاجة بهم إلى معرفتها إن كانت دراستهم بهدف ممارسة اللغة، أما إذا كانوا من الدراسين المتخصصين فيمكننا أن نقدّمَ القاعدة لهم بكل تفصيلاتها.
 وكذلك تهدف الدراسة إلى الوقوف على جانب من تاريخ اللغة العربية من خلال دراسة الجملة العربية في مراحل متعددة فسيقدم ذلك تصورا عن صيرورة هذه الظاهرة وتطورها، فالنثر العربي القديم قد مرّ بمراحل طويلة من التطور أثرّت في بنيته، فالانفتاح الثقافي الذي أدى إلى الاطلاع الواسع على أدب الشعوب الأخرى، إضافة إلى الترجمة من العربية وإليها، وكل التغيرات الفكرية والثقافية والدينية قد أسهمت في خلق تمايز وتباين بين العربية في قرونها الماضية، وعربية اليوم التي نقرؤها في الصحف والمجلات والشعر والقصص القصيرة والروايات، لذلك فإن الدراسة تسعى للوقوف على طبيعة هذا التطور وماهيته.
إن من واجب الأمة التي تريد الحفاظ على إرثها الديني والقومي والثقافي أن تبقى على تواصل معه اتصالاً وثيقاً، ويكون هذا بطرق كثيرة منها: جسر الهوّة بين اللغة المعاصرة واللغة القديمة ويكون هذا بإدراك الفوارق بين المستويين، ومن خلال رفع سوية لغتنا المعاصرة والارتقاء بها. وإدراك الفوارق يتطلب دراسة إحصائية من اللغتين من بعض الجوانب، فاللغة أوسع من أن تحصر، لذلك فالعينات المنتقاة بعناية قد تكون أفضل ما يقدّم لنا صورة واضحة عن الفوارق الجلية والخفية.

وتسلط الدراسة الضوء على لغة النثر، إذ إنها لم تأخذ حقها في ميدان البلاغة؛ حيث غلب الاهتمام بالنصوص الشعرية وبالنص القرآني، ولا شك بأن هذين النوعين من النصوص بحاجة إلى مزيد من الاهتمام، ولكن ليس علينا أن نقتصر في الدراسة عليهما، بل علينا أن نراعي  خصوصيتهما ونضع في الحسبان أن معظم النصوص المُؤلفة في وقتنا الحالي، وكثيراً من الأنماط المؤلفة قديمًا تنتمي إلى النثر، وليس إلى الشعر. 
والله الموفق 

تعليقات