كم لَبِثـنـا؟!
أكتب هنا عن العمر.. كثير من الأسئلة، وقليل من الإجابات!
سأل أدونيس ذات مرة
الشاعرة العراقية لميعة عباس عن عمرها في مجلس عام، متجاوزاً بذلك الذوقيات
المتعارف عليها في هذا الشأن، لكنها لم ترتبك وأجابت: «عمري خمسة آلاف سنة». يعلق
أحدهم "هل راوغت سليلة عشتار حين قرنت عمرها بعمر حضارتها ؟؟" قد ننجو
من سؤال كهذا أمام الآخرين ولكن هل ننجو منه أمام أنفسنا؟
لا
أفهم العمر أبداَ لا أفهم معنى هذا الرقم الذي يطلق علينا كل سنة، ولا أعرف لماذا
أصاب بالذعر عندما أنظر إلى الساعة أو إلى التاريخ بعض الأحيان، وفي أحيان
أخرى كأنني لم أر شيئاً!
صديقتي
"الدكتورة" قالت لي مهنئة بحصولي على درجة الماجستير تحثني على مواصلة
الدراسة "أنا ضيعت الثلاثين بس أخدت الدرجة" خفت أو لعلي اكتأبت بعد
قولها، متى يمكننا أن نقول بأن عمرنا ضاع في سبيل تحقيق شيء ما! وما هي الأشياء
التي تستحق أن نقضي هذا العمر فيها! وهل يا ترى قد نكتشف بعد هدر السنوات الطوال
أننا كنا في المكان الخطأ أو أن جهدنا ليس ذا قيمة تذكر! وأننا فقط انسقنا لما
يفترض من حولنا بنا أن نفعله فوجدنا أنفسنا أخيراً في هذه النتيجة التي اقتاتت
عمرنا وأيامنا وسنيننا؟ هذه الصديقة ذاتها سألتها عن سبب دراستها الدكتوراة فقالت
إن جميع من حولها بعد تخرجها من الماجستير شجعوها على أن تكمل الدراسة.. فأكملت! لم
تتوقف ولو للحظة لتسأل نفسها إن كانت تريد هذا أم لا! في النهاية فإن
النتيجة التي وصلت إليها ليست شيئاً تذم عليه ولكن أن تسير حياتنا في غفلة منا هذا
هو السؤال!
لماذا
لا نشك للحظة ونحن نضني أنفسنا بالدراسة بأننا نقتل الشاعر الذي بداخلنا أو أننا
حين نضني أنفسنا بالكتابة الأدبية فإننا نقترف جرماً بحق موهبتنا في الرسم أو في الغناء! أيْ هل
يمكننا أن نعي أي شيء بداخلنا هو الذي يستحق أن نبذل عمرنا في سبيله؟ أين يجب أن
يكون كل ما نفعله!
أين
نحن الآن وأين يجب أن نكون؟ هل نتلمس مواضع أقدامنا؟ وهل في سعينا المريح هذا أو
ذلك المضني نتساءل إن كنا مازلنا نملك زمام قيادة أنفسنا أم أننا فقدناها وأصبحنا
جزءاً من قطيع ما!
ما
معنى العمر؟ أقف حائرة أمامه؟ إن بعض اللحظات والتجارب التي نعيشها تعطينا شعوراً
بالنضج والامتلاء وبعضها بفراغها تفرغنا تماما مما نحمل من معانٍ!
أحار
في تعريف العمر لأن القوالب التي توضع لنا: ما علينا أن نفعله في هذا العمر، وما
هو الأنسب لكل رقم من هذه الأرقام.. قد تكون ناجحة لدى بعض الناس ولكن تقديسها سيجني على حياتنا.. ويخلق فينا الخوف، ولعل الخوف من هذه الأرقام هو أسوأ ما
يمنحه المرء لنفسه، وأردأ قيد يقيد الإنسان به طموحه، ويحدّ به أفقه!
بعض
الناس سخروا من العمر حين فعلوا ما لا يسألوا بعده أبداً: "ماذا قدمتم؟"
محمود
شاكر كتب وهو في السابعة والعشرين من عمره كتابه "المتنبي" الذي كان
يضارع كتاب أستاذه طه حسين عن المتنبي، وقد قال في مقدمة كتابه –بمعناه لا
بعبارته- إنه قد آن لي أن أشقّ طريقي وأن أجد لنفسي منهجاً أدبياً مغايراً عن أهل
عصري!!
ماذا
فعل هؤلاء حتى استقام لهم أن يكونوا هكذا وهم في هذا العمر؟!
وآخرون
طال بهم المسعى ولم يصلوا إلا وقد أزفت أيامهم على الرحيل، "ابن زريق"
الشاعر البغدادي الحزين، لم يكن اسمه ليطرق أسماعنا لولا قصيدته الأخيرة التي ختم
بها حياته "لا تعذليه" وكأنه يرفع شعار "حتى الرمق الأخير .."
هؤلاء
الذين نبغوا في أواخر عمرهم و آتت ثمارهم أكلها في خريف العمر يطرحون علينا سؤالا
هاما عن معنى المحاولة وضرورتها، وهو سؤال مسيس الصلة بسؤال الجدوى، وذلك أن النجاح لن يكون
حليفنا دائماً، وإذا ما طُلبت منا المحاولة أو الاستمرار بها فإننا لن نقوى عليها
إلا إذا حملنا قلوباً مؤمنة أشدّ الإيمان بما تفعل.
المحاولة
والاستمرار بها وتكرارها ليست شيئاً ممتعاً أبداً، إنه شيء مخيف وكئيب، إذ تعود لك
مشاعر فشلك في المرات الأولى، دوماً تحاول الهرب ولكنك ستواجه دوماً بكامل تلك
المشاعر، ستبقى متردداً ومتسائلاً إن كنت قد بذلت كل ما في وسعك هذه المرة أم
مازال بإمكانك المزيد! والفشل مرة بعد مرة سيستنزف روحك، ويمتصّ عمرك، ولا ضمانة للنجاح
أبداً..
وأياً
ما كان فقد تكون الأسبقية للواصلين، العباقرة اللامعين النابهين الذين نراهم
يتصدرون دوماً ويأججون الحماس في صدورنا ولكن المجد كل المجد لأولئك الذين مازالوا
يحاولون!
أعود
للميعة – محبوبة السياب حسب بعض الروايات- ولسؤال العمر الذي يبدو أنه استغرق منها
الكثير:
"صدك راح ادك باب
الثمانين
واعجّز مثل باقي النساوين ؟!
وصدك ذاك الخديد السبه السياب
وتمنه زيارته ساده وعناوين
وصدك ذيج الشفاف العاجنه
الجوري على هيل وياسمين
وذيج العيون الطايره مثل الحمامات
وتوزّع رسايل عالمحبين
صدك كلها تتعقج! وصيرن ناطره الموت ؟!
وافز مرعوبه من اشوفن بالحلم تابوت!
لون عرّافي أنبأني بأن تالي العمر افظع من الموت
لصحت بصوت: ردوني على حضن أمي
ودعيت* الله ..ياخذني يمه وآنه بالخمسين"
واعجّز مثل باقي النساوين ؟!
وصدك ذاك الخديد السبه السياب
وتمنه زيارته ساده وعناوين
وصدك ذيج الشفاف العاجنه
الجوري على هيل وياسمين
وذيج العيون الطايره مثل الحمامات
وتوزّع رسايل عالمحبين
صدك كلها تتعقج! وصيرن ناطره الموت ؟!
وافز مرعوبه من اشوفن بالحلم تابوت!
لون عرّافي أنبأني بأن تالي العمر افظع من الموت
لصحت بصوت: ردوني على حضن أمي
ودعيت* الله ..ياخذني يمه وآنه بالخمسين"
وإن كانت تواسي نفسها في
القصيدة ذاتها بصوت آخر يقول لها:
"لميعه انت القصيده
العالجرح تنزل ..وتركّص الدمعه بالعين
يم حجي الحلو يمونسه الدواوين
تبقين ذيك انت اشما تكبرين"
يم حجي الحلو يمونسه الدواوين
تبقين ذيك انت اشما تكبرين"
وأبقى أفكر فيما لو اجتزت
ما اجتازت من عمرها ووقفت بعدها أسائل نفسي عن العمر المنصرم ماذا سيكون صدى الصوت
الذي سيجيبني حينها؟!
____________________
* في
نصها "لو ابوس إيد الله"
تعليقات
إرسال تعليق