في أن تكون أنت
أدركت مؤخراً أنني منعت نفسي من الكتابة ومن النشر مرات كثيرة، فقط لأنني أعترف لقلمي فقط بحالة مثالية من الكتابة، مثالية بمعنى أن أكتب أحسن ما يمكن عن أفضل وأهم ما يمكن، بلا هفوات ولا فجوات! هذا هوس المثالية الذي أفسد عليّ كثيراً من حياتي!
لكنني كما أعاند الجميع، عاندت نفسي ونجوت بهذا النص هنا، غير المرتب ولا المهندم، لعله يكون أكثر صدقاً ومحاكاة لما أمرّ به!..
كل ما يمكنني فهمه من حياتي هذه أن كل شيء قائم على الصبر، النتائج العظيمة والآثار العميقة المستمرة تحتاج صبراً، بناءً مستمراً دقيقاً عميقاً، أما الفقاعات التي تجذب الأنظار، قد تثير ضجة، وتجذب حولها من المنبهرين والمصفقين، ولكن العبرة فيما يمكث في الأرض.
مأساة هذا الزمان تكمن في أنّ هؤلاء الصاخبين يستفزون من حولهم ليقدموا رد فعل ما، يشتتونهم، يشعرونهم بصمتهم وموتهم أمام تدفق الحياة في خطابات هؤلاء الحالمين، يصوّرون الحياة فاتحة ذراعيها للمقبلين عليها، يبيعون الوهم تحت مسميات عدة، وأشكال عدة، ويجعلون من كل المتعثرين الصامتين مذنبين في أنهم لم يكونوا بهذا الحماس، ولم يبتسموا كفاية، ولم يجرعوا من ترهات الإيجابية والتفاؤل هذه.
وأنا أسير باليأس أكثر من سيري بالأمل!
ولا أرى قناديل في هذه العتمة تشي بالنور، ولا نسيم في خضم الموج يحمل أنفاس الشاطئ، ولا مَن في نحيب الفقد يحمل قميص يوسف!
هذه ليست دعوة للاكتئاب! ولكنها دعوة في سبيل إدراك ما نحن فيه، من جنون وسُعار وبيع للوهم! لعلنا نتوجه لدربٍ صحيح! لمصارحة! لصدق!
مازلت أومن أن علينا أن نعمل، لا لأن معجزة ستحدث، أو نبياً سيبعث، أو أن نصراً مؤزراً سيفصل بين الحق والباطل سيفجؤنا!
ولكننا نعمل كي نشغل أنفسنا عن كل هذا البؤس في العالم والآلام والمعاناة التي لن تتسع قلوبنا تعاطفاً وأسى لها، نعمل كي نشتت أنفسنا عن التفكير في المآلات، وعن المثالية، وعن كلمات المجد والخلود. نعمل كي تنتصر النحن على الأنا، وكي تنتصر الأنا على إخفاق ما، وحزن ما، وألم ما.
نعمل كي نقدم إجابة خاطئة على سؤال "ماذا بعد؟" في البحث عن النهاية.
هذه الحياة وهم كبير، وفراغ يلتهمنا كل لحظة، وعلينا أن نمتلئ بفكرة، بشعور، بحلم، بعمل، وإن كان كل امتلاء يشي بحجم الفراغ، يثبته ولا ينفيه!
وكما أرى الناس الآن، أراهم صادقين وكاذبين، وأنا أحب الصادقين المخلصين! الذين يعيشون لقيمة ما، الذين يرون ويميزون بين المظهر والجوهر، ويختارون في كل مرة الجوهر! الذين لا يبحثون عن قيمة الإنسان وراء نتيجته بل في رحلته، لا ينظرون في أوراقه بل في عينيه، لا يسائلون أقداره، بل يسائلون جهده وكفاحه. أحبهم حقاً!
كل ما - وكثير ممن- حولك في الحياة يدفعك لتزييف ما، ويتسع هذا الزيف حتى لتشعر أنه يحول بينك وبين نفسك، لا تدرك حقاً أي صورة أنت، وأيها كان محض تزييف رسمته أمام الآخرين في ظرف ما.
يخيّل إليّ أن هذا الزيف ينطوي عليه كل ما حولنا، على النوايا التي نعلنها ونظيرها مما نضمر، على المشاعر التي نبديها وتلك التي نخفيها، على الطموحات التي نتنكر لها لحظة انسياق لهذه الحياة، على من نتقرب منهم ومن ننآى عنهم.
والحياة الحديثة الآن توفر لنا كل سبل الزيف بل تمجده أكثر من أي شيء آخر.
كم يبدو الأدعياء أقوياء! وكم يبدو الصادقون أغبياء!
ضجرة من الانتظار، وسئِمة من التفكير، ومن التباس الوهم بالواقع، والتباس المشاعر بالأفكار، والتباس الهلاوس بالأحلام، وتعبة من انعدام الجدوى، والرغبة في الفرار والغياب!
وبما لا يثير أي مجال للعجب، فإنّ المتنبي الذي يعرف كيف يُقال كل شيء، وأي شيء على أفضل صورة، وأقربها للنفس، يصف هذا الشعور الثقيل من الانتظار، وهو في رحلته في بادية نجد، وأشعر به وكأنه يحدّثني، إذ يقول:
نحن أدرى، وقد سألنا بنجدٍ أطويلٌ طريقنا أم يطولُ؟!
وكثير من السؤال اشتياقٌ وكثيرٌ من ردّه تعليلُ
وفي كل طريق وعلى كل مفترق أسائل نفسي هذا السؤال "أطويلٌ طريقنا أم يطول"، غير أني يا صديقي المتنبي لا أدري؟
وقد أُلحّ، فلا أجد للسؤال رداً ولا للشوق تعليلاً!
"أطويلٌ طريقنا أم يطولُ؟!"
تعليقات
إرسال تعليق